الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
ومقتله كان سعد الدين كمستكين الخادم قائماً بدولة الملك الصالح في حلب وكان يناهضه فيها أبو صالح العجمي فقدم عند نور الدين وعند ابن الملك الصالح وتجاوز مراتب الوزير فعدا عليه بعض الباطنية فقتله وخلا الجو لكمستكين وانفرد بالاستبداد على الصالح وكثرت السعاية فيه بحجر السلطان والاستبداد عليه وأنه قتل وزيره فقبض عليه وامتحنه. وكان قد أقطعه قلعة حارم فامتنع بها أصحابه وأرادهم الصالح على تسليمها فامتنعوا وهلك كمستكين في المحنة. وطمع فيها وساروا إليها وحاصروها. وصانعهم الصالح بالمال فرجعوا عنها وبعث هو عساكره إليها وقد جهدهم الحصار فسلموها له وولى عليها والله تعالى أعلم.
ثم توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب في منتصف سنة سبع وسبعين لثمان سنين من ولايته وعهد بملكه لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل. واستحلف أهل دولته على ذلك بعضهم بعماد صاحب سنجار أخي عز الدين الأكبر لمكان صهره على أخت الصالح وأن أباه نور الدين كان يميل إليه فأبى. وقال عز الدين أنا أقدر على مدافعة صلاح الدين عن حلب. فلما قضى نحبه أرسل الأمراء بحلب إلى عز الدين مسعود يستدعونه هو ومجاهد الدين قايماز إلى الفرات ولقي هنالك أمراء حلب وجاؤوا معه فدخلها آخر شعبان من السنة وصلاح الدين يومئذ بمصر بعيداً عنهم وتقي الدين عمر ابن أخيه في منبج فلما أحسن بهم فارقها إلى حماة وثار به أهل حماة ونادوا بشعار عز الدين. وأشار أهل حلب عليه بقصد دمشق وبلاد الشام وأطمعوه فيها فأبى من أجل العهد الذي بينه وبين صلاح الدين أقام بحلب شهوراً وسار عنها إلى الرقة والله تعالى أعلم.
ولما انتها عز الدين إلى الرقة منقلباً من حلب وافقه هناك رسل أخيه عماد الدين صاحب سنجار يطلب منه أن يمكنه مدينة سنجار وينزل هو له عن حلب فلم يجبه إلى ذلك. فبعث عماد الدين إليه بأنه يسلم سنجار إلى صلاح الدين فحمل الأمراء حينئذ على معارضته على سنجار وتحمسهم له. ولم يكن لغز الدين مخالفاً لتمكنه في الدولة وكثرة بلاده وعساكره فأخذ سنجار من أخيه عماد الدين وأعطاه حلب وسار إليها عماد الدين وملكها. وسهل أمره على صلاح الدين بعد أن كان متخوفاً من عز الدين على دمشق والله سبحانه وتعالى أعلم.
كان عز الدين صاحب الموصل قد أقطع مظفر الدين كرجنكري زين الدين كجك مدينة حران وقلعتها. ولما سار صلاح الدين لحصار البيرة جنح إليه مظفر الدين ووعده النصر واستحثه للقدوم على الجزيرة فسار إلى الفرات مورياً بقصد وعبر إليه مظفر الدين فلقيه وجاء معه إلى البيرة وهي قلعة منيعة على الفرات من عدوة الجزيرة. وكان صاحبها من بني أرتق أهل ماردين قد أطاع صلاح الدين فعبر من جسرها وعز الدين صاحب الموصل يومئذ قد سار ومعه مجاهد الدين إلى نصيبين لمدافعة صلاح الدين عن حلب. فلما بلغهما عبوره الفرات عادا إلى الموصل وبعثا حامية إلى الرها. وكاتب صلاح الدين ملوك النواحي بالنجدة والوعد على ذلك. وكان تقدم العهد بينه وبين نور الدين محمد بن قرى أرسلان صاحب كيفا على أن صلاح الدين يفتح آمد ويسلمها إليه. فلما كاتبهم الآن كان صاحب كيفا أول مجيب وسار صلاح الدين إلى الرها فحاصرها في جمادى سنة ثمان وسبعين وبها يومئذ فخر الدين مسعود الزعفراني فلما اشتد به الحصار استأمن إلى صلاح الدين وحاصر معه القلعة حتى سلمها نائبها على مال أخذه وأقطعها صلاح الدين مظفر الدين كوكبري صاحب حران. وسار عنها إلى الرقة وبها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي فأجفل عنها إلى الموصل وملكها صلاح الدين وسار إلى الخابور وهو قرقيسيا وسار إلى نصيبين فملكها لوقتها وحاصر القلعة أياماً وملكها وأقطعها أبا الهيجاء السمين من أكبر أمرائه. وسار عنها وملكها ومعه صاحب كيفا. وجاءه الخبر بأن الإفرنج غاروا على أعمال دمشق ووصلوا داريا فلم يحفل بخبرهم واستمر على شأنه وأغراه ظهر الدين كوكبري وناصر الدين محمد بن شيركوه بالموصل ورجحا قصدها على سنجار وجزيرة ابن عمر كما أشار عليهما فسار صلاح الدين وصاحبها عز الدين ونائبه جاهد الدين وقد جمعوا العساكر وأفاضوا العطاء وشحنوا البلاد التي بأيديهم كالجزيرة وسنجار والموصل وإربل وسار صلاح الدين حتى قاربها وسار هو ومظفر الدين وابن شيركوه في أعيان دولته إلى السور فأراه مخايل الامتناع. وقال لمظفر الدين ولناصر الدين ابن عمه قد أغررتماني. ثم صبح البلد وناشبه وركب أصحابه في المقاعد للقتال. وصب منجنيقاً فلم يغن ونصب إليه من البلد تسعة. ثم خرج إليه جماعة من البلد وأخذوه وكانوا يخرجون ليلاً من البلد بالمشاعل يوهمون الحركة. فخشي صلاح الدين من البيات وتأخر عن القصد وكان صدر الدين شيخ الشيوخ قد وصل من قبل الخليفة الناصر مع بشير الخادم من خواصة في الصلح بين الفريقين على إعادة صلاح الدين بلاد الجزيرة فأجاب على إعادة الآخرين حلب فامتنعوا. ثم رجع عن شرط حلب إلى ترك مظاهرة صاحبها فاعتذروا عن ذلك ووصلت رسل صاحب أذربيجان قرا أرسلان. وأرسل صاحب خلاط شاهرين فلم ينتظم بينهما أمر ورحل صلاح الدين عن الموصل إلى سنجار فحاصرها وبها أمير أميران وأخوه عز الدين صاحب الموصل في عسكر ولقيه شرف الدين وجاءها المدد من الموصل فحال بينهم وبينها وداخله بعض أمراء الأكراد من الدوادية من داخلها فكبسها صلاح الدين ولحق بالموصل. وملك صلاح الدين سنجار وصارت سياجاً على جميع ما ملكه بالجزيرة. وولى عليها سعد الدين ابن معين الدين أنز الذي كان متغلباً بدمشق على آخر طغركين وعاد فر بنصيبين وشكا إليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله وسار إلى حران بلدة مظفر الدين كوكبري فوصلها في القلعة من سنة سبع وثمانين فأراح بها وأذن لعساكره في الانطلاق وكان عز الدين قد بعث إلى شاهرين صاحب خلاط يستنجده. وأرسل شاهرين إلى صلاح الدين بالشفاعة في ذلك رسلاً عديدة آخرهم مولاه سكرجاه وهو على سنجار فلم يشفعه أخاه من ذلك وفارقه مغاضباً. وسار شاهرين إلى قطب الدين صاحب ماردين وهو ابن أخته وابن خال عز الدين وصهره على بنته فاستنجده وسار معه وجاءهم عز الدين من الموصل في عساكره واعتزموا على قصد صلاح الدين وبلغه الخبر وهو مريح بحران فبعث عن تقي الدين ابن أخيه صاحب حمص وحماة وارتحل للقائهم ونزل رأس عين فخاموا عن لقائه ولحق كل ببلده وسار صلاح الدين إلى ماردين فأقام استيلاء صلاح الدين على حلب وأعمالها ولمحا ارتحل صلاح الدين عن ماردين قصد آمد فحاصرها سنة تسع وسبعين وملكها وسلمها لنور الدين محمد بن قرا أرسلان كما كان العهد بينهما وقد أشرنا إليه. ثم سار إلى الشام فحاصر تل خالد من أعمال حلب حتى استأمنوا إليه وملكها في محرم سنة تسع وسبعين وسار منها إلى عينتاب وبها ناصر الدين أخوه الشيخ إسماعيل خازن نور الدين محمود وصاحبه ولاه عليها نور الدين فلم يزل بها فاستأمن إلى صلاح الدين على أن يقره على الحصن ويكون في خدمته فأقره وأعلمه. ورحل صلاح الدين إلى حلب وبها عماد الدين زنكي بن مودود ونزل عليها بالميلان الأخضر أياماً. ثم انتقل إلى جبل حوش أياماً أخرى وأظهر أنه أبنى عليها وعجز عماد الدين عن عطاء الجند فراسل صلاح الدين أن يعوضه عنها سنجار ونصيبين. والخابور والرقة وسروج فأجاب إلى ذلك وأعطاه عنها تلك البلاد وملكها وكان في شرط صلاح الدين عليه أنه يبادر إلى الخدمة متى دعاه إليها. وسار عماد الدين إلى بلاده تلك ودخل صلاح الدين حلب في آخر سنة تسع وسبعين. ومات عليه أخوه الأصغر تاج الملوك يوري بضربة في ركبته تصدعت لها ومات بعد فتح حلب. ثم ارتحل صلاح الدين إلى قلعه حارم وبها سرجك من موالي نور الدين ولاه عليها عماد الدين. فلما سلم حلب لصلاح الدين امتنع سرجك في قلعة حارم فحاصره صلاح الدين وترددت الرسل بينهما وقد دس إلى الإفرنج ودعاهم. وخشي الجند الذين معه أن يسلمها إليهم فحبسوه واستأمنوا إلى صلاح الدين فملكها وولى عليها بعض خواصه وعلى تل خالد الأمير داروم الباروقي صاحب تل باشر وأقطع قلعة أعزاز الأمير سليمان بن جندر فعمرها بعد أن كان عماد الدين خربها وأقطع صلاح الدين أعمال حلب لأمرائه وعساكره والله تعالى أعلم.
كان مجاهد الدين قايماز قائماً بدولة الموصل ومتحكماً فيها كما قلناه وكان عز الدين محمود الملقب بالقتداز صاحب الجيش وشرف الدين أحمد بن أبي الخير الذي كان صاحب العراق. كانا من أكابر الأمراء عند السلطان عز الدين مسعود صاحب الموصل وكانا يغريانه بمجاهد الدين ويكثران السعايه عنده فيه حتى اعتزم على نكبته ولم يقدر على ذلك في مجلسه لاستبداد مجاهد الدين وقوة شوكته. فانقطع في بيته لعارض مرض وكان مجاهد الدين خصياً لا يحتجب منه النساء فدخل عليه يعوده قبض عليه وركب إلى القلعة فاحتوى على أمواله وذخائره. وولى بهما القنداز نائباً وجعل ابن صاحب العراق أميراً حاجباً وحكمهما في دولته وكان في يد مجاهد الدين إربل وأعمالها فيها زين الدين يوسف ابن زين الدين علي كجك صبياً صغيراً تحت استبداده وبيده أيضاً جزيرة ابن عمر لمعز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازي وهو صبي تحت استبداده. وبيده أيضاً شهرزور وأعمالها ودقوقا وقلعة عقر الحميدية ونوابه في جميعها ولم يكن لعز الدين مسعود بعد استيلاء صلاح الدين على الجزيرة سوى الموصل وقلعتها لمجاهد الدين وهو الملك في الحقيقة فلما قبض عز الدين عليه امتنع صاحب إربل واستبد بنفسه وكان صاحب جزيرة ابن عمر وبعث بطاعته إلى صلاح الدين وبعث الخليفة الناصر شيخ الشيوخ وبشير الخادم بالصلح بين عز الدين وصلاح الدين على أن تكون الجزيرة وإربل من أعماله وامتنع عز الدين وقال هما من أعمالي. وطمع صلاح الدين في الموصل فتنكر عز الدين لزلقنداز ولابن صاحب العراق لما حملاه عليه من الفساد لنكية مجاهد الدين فبدأ أولاً يعزل صاحب أذربيجان فقال له أنا أكفله وجهز له عسكراً ونحو ثلاثة آلاف فارس وساروا نحو إربل فاكتسحوا البلد وخربوها وسار إليهم زين الدين يوسف بإربل فوجدهم مفترقين في النهب فهزمهم ومن كان معهم وعاد مظفراً ولحق العجم ببلادهم. وعاد مجاهد الدين إلى الموصل والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
ثم سار صلاح الدين من دمشق في ذي القعدة سنة إحدى وثمانين فلما انتهى إلى خزان قبض على صاحبها مظفر الدين كوكبري لأنه كان لذلك وعده بخمسين ألف دينار حتى إذا وصل لم يف له بها فقبض عليه لانحراف أهل الجزيرة عنه فأطلقه ورد عليه عمله بحران والرها. وسار عن حران وجاء معه عساكر كيفا وداري وعساكر جزيرة ابن عمر مع صاحبها معز الدين سنجر شاه ابن أخي معز الدين صاحب الموصل وقد استبد بأمره وفارق طاعة عمه بعد نكبة مجاهد الدين كما قلنا فساروا مع صلاح الدين إلى الموصل ولما انتهوا إلى مدينة الأبله وفدت عليه أم عز الدين وابن عمه نور الدين محمود وجماعة من أعيان الدولة ظناً بأنه لا يردهم وأشار عليه الفقيه عيسى وعلي بن أحمد المشطوب بردهم ورحل إلى الموصل فقاتلها وامتنعت عليه وندم على رد الوفد وجاءه كتاب القاضي الفاضل باللائمة. ثم قدم عليه زين الدين يوسف صاحب إربل فأنزله مع أخيه مظفر الدين كوكبري وغيره من الأمراء. ثم بعث الأمير علي بن أحمد المشطوب إلى قلعة الجزيرة من بلاد الهكارية فاجتمع عليه الأكراد الهكارية وأقام يحاصرها وكاتب نائب القلعة القنداز. ونمي خبر مكاتبته إلى عز الدين فمنعه واطرحه من المشورة وعدل إلى مجاهد الدين قايماز وكان يقتدي برأيه فضبط الأمور وأصلحها. ثم بلغه في آخر ربيع من سنة اثنين وثمانين وقد ضجر من حصار الموصل أن شاهرين صاحب خلاط توفي تاسع ربيع واستولى عليها مولاه بكتمر فرحل عن الموصل وملك ميافارقين كما يأتي في أخبار دولته. ولما فرغ منها عاد إلى الموصل ومر بنصيبين ونزل الموصل في رمضان سنة اثنتين وثمانين وترددت الرسل بينهما في الصلح على أن يسلم إليه عز الدين شهرزور مالها وولاية الفرائلي وما وراء الزاب ويخطب له على منابرها وينقش اسمه على سكته. ومرض صلاح الدين أثناء ذلك ووصل إلى حران ولحقته الرسل بالإجابة إلى الصلح وتحالفا عليه وبعث من يسلم البلاد وأقام ممرضاً بحران عند أخوه العادل وناصر الدولة ابن عمه شيركوه وأمنت بلاد الموصل. ثم حدثت بعد ذلك فتنة بين التركمان والأكراد بالجزيرة والموصل وديار بكر وخلاط والشام وشهرزور وأذربيجان وقتل فيها ما لا يحصى من الأمم واتصلت أعواماً وسببها أن عروساً من التركمان أهديت إلى زوجها ومروا بقلعة الزوزان والأكراد وطلبوا الوليمة على عادة الفتيان فأغلظوا في الرد فقتل صاحب القلعة الزوج وثار التركمان بجماعة من الأكراد فقتلوهم. ثم أصلح مجاهد الدين بينهم وأفاض فيهم العطاء فعادوا إلى الوفاق وذهبت بينهم الفتنة والله تعالى أعلم.
كان زين الدين يوسف بن علي كجك قد صار في طاعة صلاح الدين كما ذكرناه وإربل من أعماله. ووقع الصلح على ذلك بينه وبين عز الدين صاحب الموصل سنة ست وثمانين للعسكر معه فمات عنده أخريات رمضان من السنة واستولى أخوه على موجوده وقبض على جماعة من أمرائه مثل بلداحي صاحب قلعة حقبير كان وغيره وطلب في صلاح الدين أن يقطعه إربل مكان أخيه ويزل عن حران والرها فأقطعه إربل وأضاف إليها شهرزور وأعمالها ودوقبر قرابلي وبني قفجاق وراسل أهل إربل مجاهد الدين قايماز واستدعوه ليملكوه وهو بالموصل فلم يتطاول لذلك خوفاً من صلاح الدين. ولأن عز الدين لما كان ولاه نيابته بعد أن أطلقه من الاعتقال ليم يمكنه كما كان أول مرة وجعل معه رديفاً في الحكم كان من بعض غلمانه فكان أسفاً لذلك. فلما راسله أهل إربل قال والله لا أفعل لئلا يحكم معي فيها فلان وسار مظفر الدين إليها وملكها. حصار عز الدين صاحب الموصل جزيرة ابن عمر كان سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود قد ملك جزيرة ابن عمر بوصية أبيه وخرج عن طاعة عمه عز الدين عند نكبة مجاهد الدين كما قلناه وصار عيناً على عمه يكاتب صلاح الدين بأخباره ويغريه به ويسعى في القطيعة بينهما. ثم حاصر صلاح الدين قلعة عكا سنة ست وثمانين واستنفر لها أصحاب الأطراف المتشبثين بدعوته مثل عز الدين صاحب الموصل وأخيه عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين وسنجار شاه هذا ابن عمه وصاحب كيفا وغيرهم. واجتمعوا عنده على عكا وجاء جماعة من جزيرة ابن عمر يتظلمون من سنجر شاه فخاف واستأذن في الانطلاق فاعتذر صلاح الدين بأن في ذلك افتراق هذه العساكر فألح عليه في ذلك وغدا عليه يوم الفطر مسلماً فوعده وانصرف وكان تقي الدين عمر بن شاه أخي صلاح الدين مقبلاً من حماة في عسكر فأرسل إليه صلاح الدين باعتراضه ورده طوعاً أو كرهاً فلقيه بقلعة فنك ورده كرهاً وكتب صلاح الدين إلى عز الدين صاحب الموصل بحصار جزيرة ابن عمر يظنها مكيدة فتلقاها بالمراجعة وطلب إقطاع الجزيرة فأسعفه وسار إليها وحاصرها أربعة أشهر فامتنعت عليه. ثم صالحه على نصف أعماله ورجع إلى الموصل والله تعالى أعلم.
كان صلاح الدين قد ملك من بلاد الجزيرة حران والرها وسميساط وميافارقين وكانت بيد ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاه. ثم توفي تقي الدين فأقطعها أخاه العادل أبا بكر بن أيوب. ثم توفي صلاح الدين سنة تسع وثمانين فطمع عز الدين صاحب الموصل في ارتجاعها واستشار أصحابه فأشار عليه بعضهم بمعاجلتها وأن يستنفر أصحاب الأطراف لها مثل صاحب إربل وصاحب جزيرة ابن عمر وصاحب سنجار ونصيبين. ومن امتنع يعاجله حرباً ويعاجل البلد قبل أن يستعد أهلها للمدافعة. وأشار مجاهد الدين قايماز بمشاورة هؤلاء الملوك والعمل بإشارتهم فقبل من مجاهد الدين وكاتبهم فأشاروا بانتظار أولاد صلاح الدين وأن البلد في طاعته وأنه القائم بدولته وأنه بلغه أن صاحب ماردين تعرض لبعض بلاده فجهز جيشاً كثيفاً لقصد ماردين فوجموا الكتابة وتركوا الحركة. ثم بلغهم أنه بظاهر حران في خف من العسكر فتجهز للحركة عليه. ولما وقع الاتفاق مع سنجار جاءت عساكر الشام إلى العادل من الأفضل فامتنع وسار عز الدين في عساكر من الموصل إلى نصيبين واجتمع بأخيه عماد الدين وقد عسكر العادل قريباً منهم بمرج الريحان وخافهم فأقاموا أياماً كذلك. ثم طرق عز الدين المرض فترك العساكر مع أخيه عماد الدين وساروا إلى الموصل والله أعلم.
ولما رجع عز الدين إلى الموصل أقام بها مدة شهرين واشتد مرضه فتوفي آخر شعبان سنة تسع وثمانين وولى ابنه نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن الأتابك زنكي
ثم توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن الأتابك زنكي صاحب سنجار والخابور ونصيبين والرقة وسروج وهي التي عوضه صلاح الدين عن حلب لما أخذها منه. توفي في محرم سنة أربع وتسعين وملك بعده ابنه قطب الدين وتولى تدبير دولته مجاهد برتقش مولى أبيه. وكان ديناً خيراً عادلاً متواضعاً محباً لأهل العلم والدين معظماً لهم وكان متعصباً على الشافعية حتى إنه بنى مدرسة للحنفية بسنجار وكان حسن السيرة والله تعالى أعلم.
كان عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين قد امتدت أيدي نوابه بنصيبين إلى قرى من أعمال الموصل تجاورهم وبعث إليه في ذلك مجاهد الدين قايماز صاحب دولة الموصل يشكو إليه نوابه سراً من سلطانه نور الدين فلج عماد الدين في ادعاء أنها من أعماله وأساء الرد فأعاد نور الدين الرسالة إليه مع بعض مشايخ دولته وقد طرقه المرض فأجاب مثل الأول فنصح الرسول وكان من بقية الأتابك زنكي. وعاد إلى فأغلظ له في القول واعتزم نور الدين على المسير إلى نصيبين ووصل الخبر إثر ذلك بوفاة عماد الدين وولاية ابنه قطب الدين فقوي طمع نور الدين في نصيبين وتجهز لها في جمادى سنة أربع وتسعين. وسار قطب الدين بن سنجر في عسكره فسبقه نور الدين إلى نصيبين. فلما وصل لقيه فهزمه نور الدين ودخل إلى قلعة نصيبين مهزوماً. ثم أسرى منها إلى حران ومعه نائبه مجاهد الدين برتقش وكاتبوا العادل أبا بكر بن أيوب يستحثونه من دمشق. وأقام نور الدين بنصيبين حتى وصل العادل إلى الجزيرة ففارقها إلى الموصل في رمضان من السنة. وعاد قطب الدين إليها. وكان الموتان قد وقع في عسكر نور الدين فمات كثير من أمراء الموصل. ومات مجاهد الدين قايماز القائم بالدولة. ولما عاد نور الدين إلى الموصل وعاد قطب الدين إلى نصيبين سار العادل إلى ماردين فحاصرها أياماً وضيق عليها ثم انصرف والله تعالى أعلم.
وبني عمه ملوك الجزيرة لما رحل العادل عن ماردين كما قدمناه جمر العساكر عليها للحصار مع ابنه الكامل وعظم ذلك على هلوك الجزيرة وديار بكر وخافوا أن ملكها يغلبهم على أمرهم ولم يكن سار من سار معه منهم عند اشتغاله بحرب نور الدين إلا تقية لكثرة عساكره. فلما رجع إلى دمشق وبقي الكامل على ماردين استهانوا بأمره وطمعوا في مدافعته. وأغراهم بذلك الظاهر والأفضل ابنا صلاح الدين لفتنتهم مع عمهم العادل. فتجهز نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل وسار أول شعبان سنة خمس وتسعين وانتهى إلى دبيس فأقام بها ولحق به ابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب سنجار وابن عمه الآخر سنجار شاه ابن غازي صاحب جزيرة ابن عمر حتى إذا انقضى عيد الفطر ارتحلوا وتقدموا إلى مزاحمة الكامل على ماردين. وكان أهل ماردين خلال ذلك قد ضاق مخنقهم وجهدهم الحصار وبعث النظام المستولي على دولة صاحبها إلى الكامل يراوده في الصلح وتسليم القلعة له إلى أجل سماه على أن يبيح لهم بقوتهم من الميرة فأسعفهم بذلك وبينما هم في ذلك جاءهم خبر العساكر فامتنعوا وزحف الكامل مهزوماً إلى معسكره بالربض فخرج أهل القلعة إليهم وقاتلوهم إلى المساء ثم أجفل الكامل من ليلته منتصف شوال وعاد إلى بلاده ونهب أهل القلعة مخلفه وخرج صاحب ماردين وهو بولو أرسلان ابن أبي الغازي فلقي نور الدين وشكره وعاد إلى حصنه ورجع نور الدين وأصحابه إلى تستر. ثم سار منها إلى رأس عين فقدم عليها هنالك رسول الظاهر بن صلاح الدين من حلب يطلب له منه السكة والخطبة فوجم لذلك وثنى عزمه عن مظاهرتهم. ثم طرقه المرض فبعث إليهم بالعذر وعاد إلى الموصل في ذي الحجة آخر السنة والله تعالى أعلم.
ثم إن الملك العادل ملك مصر سنة ست وتسعين من يد الأفضل ابن أخيه فخشيه الظاهر صاحب حلب وصاحب ماردين وراسلوا نور الدين صاحب الموصل في الاتفاق وأن يسير إلى بلاد العادل بالجزيرة حران والرها والرقة وسنجار فسار نور الدين لملكها في شعبان سنة سبع وتسعين. وسار معه ابن عمه قطب الدين سنجار وحسام الدين صاحب ماردين وانتهوا إلى رأس العين وكان بحران الفائز بن العادل في عسكر فأرسل إلى نور الدين في الصلح فبادر إلى الإجابة لما وقع في عسكره من الموتان واستحلفهم وحلف لهم. وبعثوا إلى العادل فحلف وعاد نور الدين إلى الموصل في ذي القعدة من السنة والله تعالى أعلم.
لم يزل الملك العادل يراسل قطب الدين صاحب سنجار ويستميله إلى أن خطب له في أعماله سنة ستمائة فسار نور الدين صاحب الموصل إلى نصيبين من أعمال قطب الدين فحاصرها وملك المدينة. وأقام يحاصر القلعة فبينما هو قد قارب فتحها بلغه الخبر من نائبه بالموصل بأن مظفر الدين كوكبرى صاحب إربل من أعمال الموصل فرحل عن نصيبين معتزماً على قصد إربل فلم يجد كل الخبر صحيحاً فسار إلى تل أعفر من أعمال سنجار فحاصرها وملكها. وكان الأشرف موسى بن العادل قد سار من حران إلى رأس العين نجدة لصاحب سنجار. وقد اتفق معه على ذلك مظفر الدين صاحب إربل وصاحب كيفا وآمد وصاحب جزيرة ابن عمر وتراسلوا وتواعدوا للاجتماع. فلما ارتحل نور الدين عن نصيبين اجتمعوا عليها وجاءهم أخو الأشرف نجم الدين صاحب ميافارقين وساروا إلى البقعا من تل أعفر إلى كفر رقان. وقصده المطاولة حتى جاءه بعض عيونه فقللهم في عينه وأطمعه فيهم وكان من مواليه فوثق بقوله ورحل إلى نوشري قريباً منهم. وتراءى المجمعان فالتقوا وانهزم نور الدين ونجا في فل قليل ونزلت العساكر كفر رقان ونهبوا مدينة فيد وما إليها وأقاموا هنالك. وترددت الرسل في الصلح على أن يعيد نور الدين تل أعفر لقطب الدين صاحب سنجار فأعادها واصطلحوا سنة إحدى وستمائة ورجع كل إلى بلده. والله تعالى ولي التوفيق.
كان سنجر شاه بن غازي بن مودود بن الأتابك زنكي صاحب جزيرة ابن عمر وأعمالها أوصى له بها أبوه عند وفاته كما مر وكان سيئ السيرة غشوماً ظلوماً مرهف الحد على رعيته وجنده وحرمه وولده كثير القهر لهم والانتقام منهم فاقد الشفقة على بنيه حتى غرب ابنيه محموداً ومودوداً إلى قلعة فرج من بلاد الزوزان لتوهم توهمه فيهما. وأخرج ابنة غازي إلى دار بالمدينة ووكل به فساءت حاله. وكانت الدار كثيرة الخشاش فضجر من حاله وتناول حية وبعثها إلى أبيه فلم يعطف عليه فتسلل من الدار واستخفى في المدينة وبعث إلى نور الدين صاحب الموصل من أوهمه بوصوله إليه فبعث إليه بنفقة وردة خوفاً من أبيه وترك أبوه طلبه لما شاع أنه بالشام فلم يزل غازي يعمل الحيلة حتى دخل دار أبيه واختفى عند بعض حظاياه وطرق عليه الخلاء في بعض الليالي وهو سكران فطعنه أربع عشرة طعنة. ثم ذبحه وأقام مع الحرم. وعلم استاذ الدولة من خارج بالخبر فأحضر أعيان الدولة وأغلق أبواب القصر وبايع الناس لمحمود بن سنجر شاه واستدعاه وأخاه مودوداً من قلعة فرج. ثم دخلوا إلى غازي وقتلوه. ووصل محمود فملكوه ولقبوه معن الدين لقب أبيه وعمد إلى الجواري التي واطأت على قتل أبيه فغرقهن في الدجلة والله تعالى أعلم.
كان بين قطب الدين محمود بن زنكي بن مودود وبين ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة قد مر كثير من أخبارها. ولما كانت سنة خمس وستمائة أصهر العادل بن أيوب صاحب مصر والشام إلى نور الدين في ابنته فزوجها نور الدين من ابنه واستكثر به وطمح إلى الاستيلاء على جزيرة ابن عمر فأغرى العادل بأن يظاهره على ولاية ابن عمه قطب الدين سنجر وتكون ولاية قطب الدين وهي سنجار ونصيبين والخابور للعادل. وتكون ولاية غازي بن سنجر شاه لنور الدين صاحب الموصل فأجاب إلى ذلك العادل وأطمع نور الدين في أنه يقطع ولاية قطب الدين إذا ملكها لابنه الذي هو صهره على ابنته وتحالفا على ذلك. وسار العادل سنه ست وستمائة من دمشق لملك الخابور. وراجع نور الدين رأيه فإذا هو قد تورط وأنه يملك البلاد كما يحب دونه إن وفى له. وسار نور الدين إلى الجزيرة فربما حال بنو العادل بينه وبين الموصل وإن انتقض نور الدين عليه سار إليه فاضطرب في أمره وملك العادل الخابور ونصيبين. واعزم قطب الدين على أن يعتاض منه عن سنجار ببعض البلاد فمنعه من ذلك أحمد بن برتقش مولى أبيه وجهز نور الدين عسكراً مع ابنه القاهر مدداً للعادل كما اتفقا عليه. وفي خلال ذلك بعث قطب الدين سنجر ابنه إلى مظفر الدين صاحب إربل يستنجده فأرسل إلى العادل شافعاً في أمره فلم يشفعه لمظاهرة نور الدين إياه فغضب مظفر الدين وأرسل إلى نور الدين في المساعدة على دفاع العدو فأجاب نور الدين إلى ذلك ورجع عن مظاهرة العادل. وأرسل هو ومظفر الدين إلى الطاهر بن صلاح الدين صاحب حلب والي كسنجر بن قليج أرسلان صاحب الروم يستنجدانهما فأجاباهما وتداعوا إلى قصد بلاد العادل إن لم يرحل عن سنجار. وبعث الخليفة الناصر أستاذ الدار أبا نصر هبة الله بن المبارك بن الضحاك والأمير اقناش من خواص مواليه في الإفراج عن سنجار وتخاذل أصحابه عن مضايقة سنجار معه وسيما أسد الدين شيركوه صاحب حمص والرحبه فإنه جاهر بخلافه في ذلك فأجاب العادل في الصلح على أن تكون نصيبين والخابور اللذان ملكهما له وتبقى سنجار لقطب الدين وتحالفوا على ذلك ورجع العادل إلى حران ومظفر الدين إلى إربل والله تعالى أعلم.
|